ما وراء الطبيعة.. الرؤية الإبداعية
بدأت لتوي بإعادة قراءة سلسلة (ما وراء الطبيعة) للعراب الراحل د. أحمد خالد توفيق، لدي بالطبع العديد من الذكريات مع السلسلة كطفل ولكنها المرة الأولى التي أعيد قراءتها كرجل ناضج والحق يقال أن الزمن لم يزدها إلا جمالًا، نبدأ قصتنا مع طبيبنا المحبوب (رفعت إسماعيل) أستاذ أمراض الدم السابق الذي يبدأ بكتابة مذكراته مع العدد الأول ويقص لنا مغامراته مع الأساطير التي سمعنا عنها كثيرًا من قبل وربما بعضها لم نسمع به قبلها، سواء كانت أساطير عالمية كدراكيولا والرجل المذؤوب أو حتى أساطير محلية ريفية كالنداهة، تبدأ القصة بمقدمة سردية معاصرة عن حياة الطبيب الآنية ثم ينتقل بنا لمشهد من الماضي يحكي لنا فيه مغامرة جديدة، بالطبع السلسة نفسها ذائعة الصيت ولست هنا لأتحدث عنها ولكني سأتحدث عن العمل الدرامي المستوحى منها عام 2020 من بطولة أحمد أمين وإخراج (ورؤية إبداعية) لعمرو سلامة.
لا أعلم سبب تأخر ظهور عمل تلفزيوني أو سينمائي لكتابات د. أحمد خالد، فأول الأعمال المستوحاة من كتاباته كان مسلسل (زودياك) عام 2018 وجاء بعدها بعامين مسلسل ما وراء الطبيعة وكلاهما بعد وفاة العراب، الرجل بدأ الكتابة منذ التسعينيات ولطالما كانت أعماله مادة خصبة للتحويل الدرامي، د. أحمد خالد نفسه متفرج نهم ومتطلع بشدة على الأعمال العالمية وفي كثير من كتاباته كان يلمح لأحد الأفلام الشهيرة في تلك الفترة، حتى أنه كتب كتابًا كاملًا يدعى (أفلام الحافظة الزرقاء) وكان به عدد لا بأس به من الترشيحات، أن تكتب أعمالًا أدبية وأنت متأثر بالسينما والتلفزيون يجعل عقلك يتخيل المشاهد متجسدة أمامك أثناء الكتابة، حتى أنك تتخيل الموسيقى التصويرية وحركة الكاميرا وغيرها من الحركات الإخراجية وأنت تكتب فحسب، وقد برع العراب في ذلك في كتاباته فمعظم قصصه يمكنك تخيلها بالفعل كأعمال سينمائية ولن يكن في تحويلها مجهودًا كبيرًا، أتذكر أول طبعة من رواية (فيرتيجو) للمؤلف أحمد مراد كُتب عليها أنها (رواية سينمائية) وقد كان المصطلح جديدًا وتم إزالته في الطبعات اللاحقة، فالكثير يرى أن كل الروايات سينمائية إذا ما تم تحويلها بشكل مناسب، ففي النهاية الرواية والفيلم أو المسلسل ما هم إلا قصة تُروى بطريقة أو بأخرى، والحقيقة أنني لا أتفق مع هذا الرأي، فالرواية هي قصة بالفعل لكنها تتوغل بالأكثر في أبعاد النفس وتغلب بها كفة الوصف السردي عن الأحداث المتلاحقة مما يجعل تحويلها لفيلم أو مسلسل عملية معقدة وقد ينتج عنها فيلمًا مملًا للغاية، الكثير من الروايات نجحت بكونها رواية لكنها ستفشل حتمًا لو وضعت في قالب آخر غير ذلك، ولكن أعمال العراب من النوع الذي يغلب فيه الأحداث عن الوصف السردي، حتى أن بعض القراء قد يصفونه بالضحالة الفكرية كون قلمه ممتع أكثر منه مثير أدبيًا، تلك الصفة بالتحديد ما تجعل أعماله قابله للتحويل بدون أي مشكلة وخاصة سلاسل الشباب مثل ما وراء الطبيعة وفانتازيا، العدد الواحد هو حوالي مئة صفحة من الأحداث الخالصة، تصلح بشكل كبير كعمل درامي من حلقات ومشكلتها الوحيدة قد تكن ميزانية الإنتاج الضخمة التي ستضيع بين أماكن التصوير المختلفة والمؤثرات البصرية، لكننا هنا أمام مسلسل سينتج بواسطة Netflix فلابد وأن ميزانية الإنتاج كبيرة بما يكفي لترضي توقعاتنا فما الذي حدث؟
لو سبق لك وأن شاهدت مسلسل زودياك ستستمتع بالفعل، فالعمل جيد والقصة متماسكة ومشوقة، ناهيك أن قصة (حظك اليوم) المبني عليها المسلسل لم تكن بتلك الجودة، فما كان من كاتب العمل هنا سوى أنه أخذ الفكرة العامة من القصة المكتوبة كدليل ثم قام بكتابة رؤية جديدة للأحداث وأضاف بالفعل للقصة، الكثير من المؤلفين يقومون بذلك عند التحويل من نوع فن لآخر، يمكنك أن تشاهد فيلمًا يحكي قصة ماكبث في عام 2022 لكنها بالتأكيد ستكن مختلفة عن القصة الأصلية التي ألفها شيكسبير في بدايات القرن السابع عشر، شرطي الوحيد في القيام بذلك هو كون القصة نفسها لا تلاءم العصر، أو أن أحداثها وشخصياتها غير ثرية بما يكفي لتدعم انتاج فيلمًا شيقًا مدته ساعتان أو مسلسلًا من عشر حلقات، حينها لا يكن أمام المؤلف سوى أخذ الفكرة العامة وإضافة وتغيير بعض التفاصيل حتى يصبح العمل أكثر جودة وهذا هو الشرط الوحيد، لو قرأت (حظك اليوم) ستستمتع لكنك لن تتخيله كمسلسل ناجح لأنها قصة قصيرة في النهاية وليست سلسلة قصص أو رواية، لو شاهدت (زودياك) ستستمتع أكثر وتعرف أن القصة تطورت وأصبحت أكثر جودة، هل تعلم أن أبيات الشعر الشهيرة المرتبطة بجملة "حتى تحترق النجوم" والتي انتشرت بشدة على الانترنت وظهرت في المسلسل نفسه هي ليست من تأليف العراب ولم توجد في أي عدد من أعداد ما وراء الطبيعة، بل أن العراب كتب نهاية للجمل ولكن أحد الشعراء أخذ البداية وألف هو الكلمات الجديدة فأعجب بها العراب وقام بإعادة نشرها والثناء عليها، أعلم يقينًا أنه لو شاهد زودياك لأعجب بالتطوير الذي حدث بقصته ودعم وشجع أصحاب العمل بشكل كبير.
لكن هذا الأمر لا ينطبق على سلسلة (ما وراء الطبيعة)، فالسلسلة هي باكورة أعمال العراب وقد وضع بها كل عوامل نجاح العمل الدرامي، لديك مجموعة قصص مترابطة بإطار عام واحد لكنها مختلفة في أحداثها ومليئة بالأحداث وشيقة، من قرأ القصص سيستمتع بتجسيدها على الشاشة ومن لم يقرأ سيشاهدها لأول مرة وينبهر بالعالم الذي أمامه، فقط احضره كما هو وترجم تلك الكتابات بصريًا، حاليًا حتى الأفلام المأخوذة من القصص المصورة تعتمد بشكل كبير على أن أشكال الشخصيات والأحداث هي ذاتها الموجودة بالقصة المصورة، لديك قصة جيدة مترابطة وحبكة شيقة وشخصيات غنية لتستلهم منها، لما تلقي بكل هذا وتبني قصة جديدة معتمدًا فقط على الأفكار العامة؟ فأنت هكذا خلقت قصة موازية للقصة الأصلية وستدفع الناس دائمًا للمقارنة بين قصتك وبين القصة الأصلية لمعرفة من الأفضل، الفيلم الأول عن ماكبث لابد وأنه حكى القصة كما هي، وما تلاه بدأ التغيير كونها أصبحت معتادة، لذا فالعمل الدرامي الأول المستوحى من ما وراء الطبيعة لابد وأن يكون محاكاة مطابقة لما هو مكتوب، ولو تم تغيير أي شيء لابد وأن يكن تغييرًا للأفضل، أتذكر تحويل رواية (هيبتا) لفيلم سينمائي وتعجبي الشديد من ذلك كونها ليست من الروايات السينمائية في رأيي، لكن المؤلف والمخرج كلاهما نجحا في تغيير بعض الأحداث وطبيعة الشخصيات ليصلا في النهاية إلى قصة مشابهه بشكل كبير للقصة الأصلية لكنها أفضل في كثير من النواحي، اقرأ أسطورة النداهة فأجد قصة جيدة مترابطة وأحداث شيقة ترغمك على التهامها في يوم واحد وحتى وجود تغيير درامي للأحداث في النهاية (Plot Twist) جعلها شيقة بشكل أكبر، النهاية برأيي كانت ضعيفة بعض الشيء بخصوص هروبه لكن لو تم تغيير النهاية فحسب مع الإبقاء على كامل القصة كحالها لأصبحت حلقة اسطورية تنافس المسلسلات العالمية وخاصة أننا على منصة واحدة مع أعمال شهيرة ناطقة بلغات غير انجليزية مثل (Dark) و (La Casa De Papel)، كان من الممكن أن يصبح ما وراء الطبيعة خالدًا مثل تلك الأعمال ويكتسب شهرة عالمية لو فقط تم أخذ القصة كما هي دون وجود رؤية إبداعية سيئة من المخرج جعلت العمل ككل أقل جودة.
أتعرف (مانجا Death Note) الشهيرة؟ هي عبارة عن قصص مصورة تم تحويلها لمسلسل رسوم متحركة Anime من 37 حلقة عام 2006، حاولت Netflix انتاج عمل فني واقعي Live Action من السلسلة عام 2017 لكنه فشل فشلًا ذريعًا، أدعوك لمشاهدة المسلسل المُنتج قبل الفيلم بعقد كامل من الزمان لتجد قصة عظيمة وفكرة جديدة رائعة وشخصيات وحبكة وأحداث ذكية شيقة ليس لها مثيل، ثم شاهد الفيلم الذي تحول لمسخ يحاول أن يستلهم من المسلسل مع إضافة لمسة إبداعية هو الآخر، لن تكمل نصفه من سذاجته، لو تحول المسلسل لمسلسل واقعي Live Action سأكن من أول المشاهدين والداعمين لهذا التحويل، نفس الأمر يتعلق بما وراء الطبيعة.
المسلسل بدأ بقصة مبتورة عن طبيب لا نعلم عنه شيئًا، يهيم عشقًا بماجي التي لم تظهر في أعداد ما وراء الطبيعة الأولى أصلًا، حبه لماجي كان دافعًا أساسيًا وراء معظم أفعاله وكذلك خطبته لهويدا، كأنك ترى عملًا من نصفه، لا تعلم من هؤلاء ولا لما يجب عليك أن تتعاطف معهم، نحن في القاهرة في الستينات نعاني من أحداث غرائبية وهيا شاهد معنا وتواصل مع العمل الفني، بالطبع كمتفرج لن أفعل ذلك، جزء مهم من القصة يكمن في التحضير، في البداية، في معرفة من هؤلاء وما جاء بهم إلى هنا، بتقسيم الأحداث تقسيمًا منطقيًا يبرر كل فعل يحدث، لا ضرر أن تبدأ بالحدث المهم أو العقدة لكن لابد وأن تعود لإخبار المشاهد بما يحدث من البداية وهذا ما لم يحدث هنا، في القصة المكتوبة بدأ د. رفعت إسماعيل بتعريف نفسه، وكيف أنه - على الرغم من عدم سعيه لذلك - دائمًا ما يجد نفسه في وسط الأحداث الغريبة، أرى جد عجوز يكتب ذلك في مذكراته وهو يتذكر الماضي في شجن، ثم تنتقل بنا الأحداث لمكان أول رواية في إنجلترا وزيارة لطبيب زميل حين بدأ د. رفعت الشاب مغامراته مع الماورائيات بأسطورة مصاص الدماء، نعود في كل حلقة جديدة للجد رفعت وهو يخبرنا بقصة جديدة من مغامراته وتنتقل بنا مذكراته لعالم جديد في كل مرة كما في القصة ويبدأ في تعريفنا بعائلته في الحلقة الثانية ومن ثم بحبيبة عمره في الثالثة ثم بأحداث كخطبته في الرابعة، لا ضرر بكون كل حلقة بطاقم جديد في مكان تصوير جديد، الرابط الوحيد بين كل هذا هو د. رفعت نفسه، لا تبحث عن رابط آخر فهذا هو الوضع في القصص ولا ضرر في ذلك، لقد بحث صاحب الرؤية هنا عن قصص تخدم بحثه عن رابط وخط أحداث يربط الحلقات الستة ببعضها ومن ثم أضاف كل الشخصيات في المسلسل من الحلقة الأولى وجعل دوافع الحلقات كلها متشابهة، ما وراء الطبيعة كسلسلة ليست بهذا الشكل، هي حلقات منفصلة ومتصلة مثل قصص شيرلوك هولمز مثلا، وليست قصة واحدة مترابطة مثلما حدث في المسلسل.
اختيار طاقم التمثيل كان سيئًا بشدة وكذلك المؤثرات البصرية جاءت ضعيفة للغاية، لن أتحدث بموضوعية عن جوانب المسلسل فالقصة والإخراج أخرجوا المسلسل من أي تقييم، الأمر المحزن هو أن فرصة تمثيل ما وراء الطبيعة دراميًا من انتاج Netflix هي فرصة ذهبية تأتي مرة وواحدة في العمر وللأسف أتت للأشخاص الخطأ، أتمنى أن أعش حتى أرى تجسيدًا يليق بمكانة تلك السلسلة في الأدب العربي وفي قلوب قراءها حتى نتشفى ونسعد أخيرًا بقدر توقعاتنا ونتخلص من هذا التقليد الرديء الذي أشعرنا بالقهر على قصتنا المحبوبة.