The Batman.. صحوة فارس الظلام
لا زلت أتذكر دهشتي عند رؤية إعلان فيلم Batman الأول على القناة الثانية الأرضية آنذاك، ألغيت كل مواعيدي وإن لم تكن عديدة وجلست قبل ميعاد العرض بساعة كاملة أنتظر (مايكل كيتون) ليطل علي بالبذلة السوداء المميزة ويتحدث بصوته الأجش، لم يكن الإنترنت متوفرًا ولم تكن السينمات في المتناول، كنا نشاهد فيلمًا تم إصداره في الخارج منذ سنوات وبداخلنا نفس الدهشة، شخصية الرجل الوطواط نفسها ارتبطت بالوعي الجمعي للبشرية كلها بسبب كثرة الأعمال الفنية التي ظهر فيها وتنوعها على مدار سنوات عديدة، ظهور الشخصية الأول على الورق جاء عام 1939 في مجلة Detective Comics وسرعان ما انتشرت الشخصية كالنار في الهشيم، الكل يعرف الرجل الوطواط ببذلته السوداء التي تحوي شعاره ومساعده روبن واعداءه الجوكر وThe Riddler وثنائي الوجه، المعظم شاهد على الأقل عملًا فنيًا واحدًا لفارس الظلام من بدايته على الشاشة عام 1966 بفيلم Batman The Movie وحتى نسخة المخرج (زاك سنايدر) من فيلم Justice League التي صدرت عام 2021، خمسة وخمسون عامًا شاهدنا فيها أعمالًا متنوعة منها ما هو مخيب ومنها ما يصنف كتحف فنية، يكفي أن أخبرك أن الحاصل على جائزة الأوسكار كأفضل ممثل العام قبل الماضي هو (خواكين فينيكس) عن فيلم Joker الشخصية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالرجل الوطواط بالرغم من عدم ظهوره في الفيلم، على الرغم من كل ذلك نجد الكثير غير متحمس للإنتاج الجديد والإقبال عليه ضعيف عكس إنتاجات مارفل مثلا التي تحطم الانترنت مع كل إعلان جديد، فلما كل هذا التشاؤم من صدور فيلم جديد لشخصية يحبها الجميع؟ دعنا نكتشف ذلك سويًا.
لو أهملنا فيلم الستينات والمسلسلات والرسوم المتحركة سنجد أننا أمام ثلاث مجموعات من الأفلام تناولت قصة البطل الشهير، البداية بالرباعية التي بدأها (تيم برتون) و(مايكل كيتون) وأنهاها بخيبة (جويل شوماخر) و(جورج كلوني)، أربعة أفلام بدأت عام 1989 بقوة كبيرة وانتهت عام 1997 بركاكة متصنعة، المثير للإعجاب هنا أنه التجسيد الأول بحق للشخصية وادواتها وشخصياتها، شاهدنا عدد ضخم من الأشرار وكانت الأفلام بداية تعريفهم لمشاهدي السينما والتلفزيون بعدما كان وجودهم مقتصر على القصص المصورة فحسب، كان الاتجاه الفني يتطلب الإبهار فحسب كما في القصص، دعني انغمس في سيارة الرجل التي تطير كالنفاثة على الطريق وتأتي حين يحدثها في هاتفه، دعني أشاهد جوكرًا مشوه بفعل الكيماويات التي طبعت على وجهه ابتسامه لا تمحى، قدّم لي رجلًا يرتدي بذلة خضراء مليئة بعلامات الاستفهام وسأنبهر، طالما قررنا الاستعادة بالقصص المصورة في السينما لابد وأن نحضر روحها الطفولية الغير واقعية معنا في المشهد.
الأمر راق للكل وقتها لا ننكر ذلك، ولكن بدخول الألفية الجديدة ألقت علينا الأحداث الواقعية بدلوها، حروب ودمار وتخريب زادت الوعي ألف عامًا على أعوامه، لم نعد ننبهر بالألوان البرّاقة ولا بالأدوات المتخيلة، اعطني بطلًا واقعيًا قد اشاهده أثناء سيري في الشارع صباحًا وقد حمل شخصية سرية تدافع عني ليلًا، الدمج بين الواقع والقصص المصورة أنتج لنا ثلاثية من أعظم ما يكن من إخراج (كريستوفر نولان) وبطولة (كريستيان بيل)، بدأت عام 2005 بفيلم Batman Begins الذي تعامل مع الشخصية كأنها لو تُعرف للجمهور من قبل، ومعه كل الحق لأن دراسته للشخصية جاءت مختلفة تمامًا عن الأفلام السابقة، ناهيك أن آخر فيلم صدر قبله بثمان سنوات، الرجل الوطواط هنا شخص فقد كل عزيز فاتجه للجبال بحثًا عن السلوى، ووجدها في تعلمه الفنون القتالية السرية كالنينجا على يد جماعة رأس الغول، القصة برمتها مستوحاه من القصص المصورة كسابقتها ولكن المعالجة الدرامية والتنفيذ جاء واقعيًا محببًا للكل، شاهدنا سيارته الضخمة التي جاءت كنموذج أولي من مخلفات جيش في حرب سابقة وطليت بالأسود، شاهدنا بذلته وقد صنعها من أدوات كانت في الأصل لتقوية الجنود، بدأ الأمر يسير على نهج الواقعية بعيدًا عن تخيلات القصص الطفولية، أصبحنا نشاهد جوثام كمدينة تشبه مدنًا كثيرة مرت علينا بدلًا من كونها ستوديو تصوير ضخم كما في السابق، الدمج بين الواقع وأساس القصة المصورة أنتج لنا تحفة فنية خالدة حتى يومنا هذا ولكن يعيبها فقط إهمال بعض الشخصيات، شخصيات كروبن وCat Woman وحتى Two Face ظهروا لفترة قليلة على الشاشة.
بعدها جاءت شركة وارنر بالأب الروحي لأفلام القصص المصورة (زاك سنايدر)، زاك جاء بعد نجاح فيلم Watchmen الذي راهن الكل على فشله، كاتب القصص المصورة نفسه قال بأن القصة لا يمكن تحويلها لفيلم بينما نجح في ذلك زاك بشكل كبير عام 2009، ظهور الرجل الوطواط الأول معه عام 2016 في فيلم Batman V Superman Dawn of Justice وجسد الشخصية (بين أفليك)، القصة مختلفة فهذه المرة تم التعامل مع الرجل الوطواط بأن نشأته وبدايته معروفة للجميع، لدرجة ظهور أشياء تخص روبن وجوكر في الفيلم على الرغم من عدم ظهورهما مع بين أفليك في الأفلام، زاك تعامل مع الشخصية بأنها معروفة للكل وهو فقط يحكي مغامرة جديدة لا قصة نشأة الشخصية أو Origin Story كما فعل سابقوه، هنا بدأ التخبط بظهور الرجل الوطواط مباشرة في صراع مع سوبرمان بتوجيهات من شركة الإنتاج لمنافسة قطار مارفل الذي أنتج Civil War بقصة مشابهه في نفس العام، زاك كان يطمح بتقديم الرجل الوطواط الخاص به في فيلم مستقل بالبداية ثم يبدأ بخلق صراعات وتحالفات مع أبطال آخرين مثلما حدث، لكن شركة الإنتاج أهملت فكرته وشرعت في تقديم الرجل الوطواط كبطل مشترك مع الآخرين وليس كالنجم الأوحد كالأفلام السابقة، ثراء الشخصية نفسها وعمق شخصيات أشرارها كافي لخلق عالم كبير بطله الرجل الوطواط وحده، فكرة دمجه في عالم كبير مع سوبرمان وآخرين فقط لخلق عالم قريب لمارفل ما هو إلا عبث متعمد من شركة وجدت النجاح في تقليد الآخرين بدلًا من التفرّد بمميزاتها، جاءت السقطة الكبرى بفيلم Justice League الذي تدخلت بإنتاجه الشركة لدرجة إقالتهم لزاك نفسه بعد المشاهدات الأولية للفيلم، ثم المجيء بـ(جوس ويدون) كاتب الفيلم ليكمل إخراجه وفق تعليمات الشركة ليخرج لنا فيلم هجين كطفل سِفاح لم يتحمل مسئوليته أحد.
رحل زاك وانتهى معه ظهور شخصية الرجل الوطواط الذي استمر نجاحه في أفلام الرسوم المتحركة فحسب، الشخصية محبوبة من الجميع والكل ينتظر رؤيتها في عمل جديد لكن أين السبيل؟ بدأ الأمر بفكرة إنتاج فيلم مستقل لشخصية الجوكر، الشخصية لطالما كانت مثار تساؤل وغير معلوم أبدًا بدايتها حتى في القصص المصورة، تراثها غني بشكل سيجعل فيلمها مطلوب بكل تأكيد، جاء المخرج (تود فيليبس) وبدأ مع (خواكين فينيكس) في إنتاج قصة جديدة بعيدة عن العالم السينمائي وحتى عن توجيهات شركة الإنتاج، وارنر طلبت من تود التركيز على التسويق للمنتجات الدعائية في الفيلم لكنه أهمل تلك النصيحة وتم إصدار الفيلم بتصنيف R أي أنه للبالغين فقط وغير مسموح بمشاهدته للأطفال والمراهقين، غضب عارم في الشركة بسبب قرار المخرج ولكن لم يتم التدخل وبالفعل صدر الفيلم عام 2019.
نجاح فيلم Joker جماهيريًا وفنيًا جعل شركة وارنر تعيد التفكير في أمر تقليد مارفل، الفيلم كان سوداويًا كئيبًا لشخصية شريرة ولم يقترب لتركيبة أعمال مارفل في شيء ونجح بالرغم من كل ذلك، تصنيف الفيلم كـR جعل الفيلم يخسر نصف الإيرادات المتوقعة لكنه نجح أيضًا بالرغم من ذلك، بعد نجاح شرير الرجل الوطواط الأشهر كل الأنظار اتجهت فورًا إلى البطل، خبر جديد يفيد قيام الشركة بإنتاج فيلم The Batman بطولة (روبرت باتنسون) وإخراج (مات ريفز)، الفيلم خارج العالم السينمائي وبقصة ورؤية فنية مختلفة تمامًا عن أي عمل سابق للرجل الوطواط ولكن بتغيير وحيد سلبي من وجهة نظري وهو تصنيف الفيلم كـPG-13 أي أنه يمكن للجميع مشاهدته مما كان تأثيره سلبيًا من وجهه نظري، سنتحدث عن ذلك بالتفصيل في الفقرة الآتية.
مات ريفز كان ذكيًا فيما يتعلق بالفيلم، درس جيدًا من سبقوه وعلم كيف يتفادى الأخطاء ويعزز الإيجابيات، اتبع نهج زاك في عدم التعريف ببداية الشخصية لأن الكل يعلم من هو الرجل الوطواط وكيف نشأ أصبح ذلك جزءًا من وعي البشرية ولا أعتقد أننا سنشاهده على الشاشة مجددًا ولكن سيتم الإشارة له فحسب، اختار كذلك أبطال الفيلم بعناية وهما شخصيتي Catwoman وThe Riddler بالإضافة لبعض الشخصيات الأخرى مثل البطريق وغيرهم، اختيار الشخصيات في رأيي ممتاز للغاية، فـCat Woman لم يتم تجسيدها بشكل لائق من قبل، لو استبعدنا فيلم (هالي بيري) السيء فقد ظهرت الشخصية في فيلمين سابقين للرجل الوطواط وكان ظهورها غير كافي لتقديم الشخصية، هنا ظهرت وتعرفنا عليها بشكل كافي ومدة طويلة، كذلك The Riddler على الرغم من روعة دور (جيم كاري) في السابق لكنه لم يكن تجسيدًا واقعيًا للشخصية، بل كان من الماضي حيث دقة أزياء وتصرفات القصص المصورة، The Riddler الآن هو شخص عادي يرتدي معطف زيتي وغطاء للرأس ونظارة طبية ويبث أحاجيه عبر الانترنت، كذلك البطريق لم يعد شخص رث الهيئة يأكل السمك النيء ويرتدي معاطف سوداء على قمصان بيضاء، بل هو شخص حقيقي يدير منظمة إجرامية ولا يملك من البطريق سوى اسمه، المعالجة هذه المرة واقعية كمعالجة نولان وسوداوية كمعالجة زاك، تم التمهيد للشخصيات الأخرى بشكل جيد كونها تعرض – تقريبًا – لأول مرة على الشاشة ولكن لم يتم تقديم الرجل الوطواط كما قلنا سلفًا، هذه المرة يتعاون مع الشرطة برفقة صديقه المحقق جيمس جوردون لكشف جرائم الشخص المجهول المسمى بـThe Riddler، القصة بوليسية بامتياز تذكرنا بقصص أجاثا كريستي ومحققها الشهير هيركيول، يتبع الرجل الوطواط خيطًا تلو الآخر مستعينًا بمساعدة ألفريد وأدواته الحديثة في الكشف عن الفساد المنتشر في جوثام بعد مقتل العمدة المترشح، يسير على خطة The Riddler حتى تشعر لوهله أنهما فريق واحد، تتعاطف معه وتسأل نفسك طوال الفيلم "هل هو على حق؟"، المزج بين البوليسية والدراما في تطور قصة بروس وين نفسه والرومانسية بينه وبين Cat Woman والتخبط بين صحة أقاويل The Riddler من عدمها كل ذلك في قالب مدينة جوثام السوداوي الحديث حيث الانترنت والهواتف الذكية جعل من الفيلم تحفة فنية جديدة وتجسيد لم نرى مثله من قبل لعالم الرجل الوطواط الثري.
التصوير والموسيقى كانا بطلي الفيلم من وجهه نظري الشخصية، تلوين المشاهد واختيار زوايا التصوير ورمزياتها تشي بمخرج ومدير تصوير ذكيان يعيان ما يفعلاه، الموسيقى كذلك جاءت قوية وجامحة تليق بعظمة الشخصية، منذ الدقيقة الأولى ستجعلك على طرف مقعدك من النشوة، متعة للعين ومسرة للأذن هذا الفيلم كما لم نرى في أي فيلم قصص مصورة من قبل، ربما فيلم Joker فقط من شعرت خلاله بتلك النشوة، التمثيل أغلب الوقت ممتاز من طاقم العمل كله، حقيقي كنت أرى في باتنسون ممثلًا جميل الهيئة فحسب من دون إمكانيات تمثيلية لكن رأيي اختلف بعد مشاهدتي لـTenet، نضج فتى Twilight الصغير وأصبح يمتلك من القدرة ما يجعله يحمل عبئ الوطواط الأسود الكبير على صدر بذلته، شخصيًا أكثر من أبهرني هو (كولين فاريل)، هذا الرجل الذي أفنى سني حياته بطلًا لأفلام (يورغوث لانسيموس) أصبح من أثقل الممثلين شئنًا على الساحة، مكياج الشخصية الذي حوله تمامًا من شخصيته لشخصية البطريق يستحق جائزة ولكن أداء الرجل تحوّل معه أيضًا، من شاهد أي عمل سابق لكولين سيعلم كم التطور في الأداء ونبرة الصوت والحركة، لم أشك لحظة أنه يقوم بالتمثيل فهو البطريق بالفعل لا يشبه كولين في شيء.
مشكلاتي مع الفيلم تبدأ من تصنيفه كـPG-13، فيلم ظلامي كهذا لا يمكن أن يُنتج بدون لقطة دماء واحدة، نشاهد في مشهده الأول شخصية تنهال بالضرب بأداة حديدية على رأس شخصية أخرى ولا تظهر أي دموية باللقطة، كذلك في عديد اللقطات يُضرب الرجل الوطواط بأسلحة مختلفة ولا نشاهد نقطة دماء واحدة على بذلته، تصنيف الفيلم حال دون جعله واقعيًا للنهاية، هذا هو الشيء الوحيد الذي قلّد الفيلم مارفل فيه ولو لم يحدث لكنا أمام تحفة خالدة كـJoker، لا أعلم إن كان ذلك قرار المخرج أم شركة وارنر تدخلت مجددًا ولكني أرجح الرأي الأخير، لو كانت أحداث الفيلم غير عنيفة كنت لا مشاكل في جعله غير دموي، ولكن هذا العنف وهذا السواد من دون دماء غير واقعي إطلاقًا.
كذلك ما لم يعجبني هو مسارات قصة الفيلم المتشعبة، نشاهد شريرًا واحدًا ونتابع قصته حتى تنتهي بمنتصف الفيلم تقريبًا، وما حدث بعد هذا وحتى النهاية في رأيي غير مبرر وتم الاستعجال في انهاءه، ما جدوى مدة الفيلم التي تقترب من ثلاث ساعات إن كنا سنمل ونفقد حماستنا في الساعة الأخيرة، لو انتهى الفيلم قبل الحدث الأخير أو ما يسمى بالـThird Act لفضلته عن وضعه الحالي بكثير، في النهاية الفيلم بالفعل يستحق المشاهدة ومميزاته تتفوق بكل تأكيد على سيئاته، وبالتأكيد بانتظار الجزء الثاني وأتحرق شوقًا لعمل يجمع بين باتمان روبرت باتنسون وجوكر خواكين فينيكس.